الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائيّ وجماعة {أسّس بنيانه} على بناء الفعل للفاعل ونصب بنيانه فيهما، وهي اختيار أبي عبيد لكثرة من قرأ به، وأن الفاعل سمي فيه.وقرأ نصر بن عاصم بن عليّ {أفمن أَسَسُ} بالرفع {بُنيانه} بالخفض.وعنه أيضًا {أساس بنيانه} وعنه أيضًا {أَسُّ بنيانه} بالخفض.والمراد أصول البناء كما تقدّم.وحكى أبو حاتم قراءة سادسة وهي {أَفَمَنْ آسَاسُ بُنْيَانِهِ} قال النحاس: وهذا جمع أُسّ؛ كما يقال: خُفٌّ وأخْفَاف، والكثير {إساسٌ} مثل خفاف.قال الشاعر:
الثانية قوله تعالى: {على تقوى مِنَ اللَّهِ} قراءة عيسى بن عمر فيما حكى سيبويه بالتنوين، والألف ألف إلحاق كألف تترى فيما نُوّن، وقال الشاعر: وأنكر سيبويه التنوين، وقال: لا أدري ما وجهه.{على شَفَا} الشفا: الحرف والحدّ، وقد مضى في آل عمران مستوفى.و{جُرُفٍ} قرئ برفع الراء، وأبو بكر وحمزة بإسكانها؛ مثل الشُّغُل والشُّغْل، والرُّسُل والرُّسْل، يعني جُرُفًا ليس له أصل.والجُرُف: ما يُتجرّف بالسيول من الأدوية، وهو جوانبه التي تنحفر بالماء، وأصله من الجَرْف والاجتراف؛ وهو اقتلاع الشيء من أصله.{هَارٍ} ساقط؛ يقال: تهوّر البناء إذا سقط، وأصله هائر، فهو من المقلوب يقلب وتؤخر ياؤها، فيقال: هارٍ وهائر، قاله الزجاج.ومثله لاَثَ الشيءَ به إذا دار؛ فهو لاثٍ أي لائث.وكما قالوا: شاكي السلاح وشائك السلاح.قال العجاج: الأشاء النخل، والعُبْرِي السِّدْر الذي على شاطئ الأنهار، ومعنى لاَث به مُطِيف به.وزعم أبو حاتم أن الأصل فيه هاور، ثم يقال هائر مثل صائم، ثم يقلب فيقال هارٍ.وزعم الكسائي أنه من ذوات الواو ومن ذوات الياء، وأنه يقال: تهور وتهير.قلت: ولهذا يمال ويفتح.الثالثة قوله تعالى: {فانهار بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} فاعل انهار الجُرُف؛ كأنه قال: فانهار الجرف بالبنيان في النار؛ لأن الجرف مذكر.ويجوز أن يكون الضمير في به يعود على {مَن} وهو الباني؛ والتقدير: فانهار مَنْ أسس بنيانه على غير تقوى.وهذه الآية ضربُ مثلٍ لهم، أي من أسس بنيانه على الإسلام خير أم من أسس بنيانه على الشرك والنفاق.وبين أن بناء الكافر كبناء على جرف جهنم يتهور بأهله فيها.والشَّفَا: الشفير.وأشفى على كذا أي دنا منه.الرابعة في هذه الآية دليل على أن كل شيء ابتدئ بنيّة تقوى الله تعالى والقصد لوجهه الكريم فهو الذي يبقى ويَسْعَد به صاحبه ويصعد إلى الله ويرفع إليه، ويخبر عنه بقوله: {ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام} [الرحمن: 27] على أحد الوجهين.ويخبر عنه أيضًا بقوله: {والباقيات الصالحات} [الكهف: 46] على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.الخامسة واختلف العلماء في قوله تعالى: {فانهار بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} هل ذلك حقيقة أو مجاز على قولين؛ الأوّل أن ذلك حقيقة وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم إذ أرسل إليه فهُدِم رؤي الدّخان يخرج منه؛ من رواية سعيد بن جُبير.وقال بعضهم: كان الرجل يُدخل فيه سعفة من سعف النخل فيخرجها سوداء محترقة.وذكر أهل التفسير أنه كان يُحفر ذلك الموضع الذي انهار فيخرج منه دخان.وروى عاصم بن أبي النُّجُود عن زِرّ بن حبيش عن ابن مسعود أنه قال: جهنم في الأرض، ثم تلا {فانهار بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ}.وقال جابر بن عبد الله: أنا رأيت الدخان يخرج منه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.والثاني أن ذلك مجاز، والمعنى: صار البناء في نار جهنم، فكأنه انهار إليه وهوى فيه؛ وهذا كقوله تعالى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة: 9].والظاهر الأوّل، إذ لا إحالة في ذلك. والله أعلم. اهـ.
وقرأ عيسى بن عمر {على تقوى} بالتنوين، وحكى هذه القراءة سيبويه، وردها الناس.قال ابن جني: قياسها أن تكون ألفها للإلحاق كارطي.وقرأ جماعة منهم: حمزة، وابن عامر، وأبو بكر، جرف بإسكان الراء، وباقي السبعة وجماعة بضمها، وهما لغتان.وقيل: الأصل الضم.وفي مصحف أُبي: {فانهارت به قواعده في نار جهنم}، والظاهر أنّ هذا الكلام فيه تبيين حالي المسجدين: مسجد قباء، أو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومسجد الضرار، وانتفاء تساويهما والتفريق بينهما، وكذلك قال كثير من المفسرين.وقال جابر بن عبد الله: رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار وانهار يوم الاثنين.وروى سعيد بن جبير: أنه إذ أرسل الرسول بهدمه رؤي منه الدخان يخرج، وروي أنه كان الرجل يدخل فيه سعفة من سعف النخل فيخرجها سوداء محترقة، وكان يحفر ذلك الموضع الذي انهار فيخرج منه دخان.وقيل: هذا ضرب مثل أي من أسس بنيانه على الإسلام خير أم من أسس بنيانه على الشرك والنفاق، وبين أنّ بناء الكافر كبناء على شفا جرف هار يتهور أهله في جهنم.قال ابن عطية: قيل: بل ذلك حقيقة، وأنّ ذلك المسجد بعينه انهار في نار جهنم قاله: قتادة، وابن جريج.وخير لا شركة بين الأمرين في خير إلا على معتقد باني مسجد الضرار، فبحسب ذلك المعتقد صح التفضيل.وقال الزمخشري: والمعنى: أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة وهي الحق الذي هو تقوى الله تعالى ورسوله خيرٌ، أم من أسس على قاعدة هي أضعف القواعد وأوهاها وأقلها بقاء وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار في قلة الثبات والاستمساك؟ وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى، لا جعل مجازًا عن ما ينافي التقوى.(فإن قلت): فما معنى قوله تعالى: {فانهار به في نار جهنم}؟ (قلت): لما جعل الجرف الهائر مجازًا عن الباطل قيل: فانهار به على معنى فطاح به الباطل في نار جهنم، إلا أنه رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف، ولتصور أنّ الباطل كأنه أسس بنيانه على شفا جرف من أودية جهنم فانهار به ذلك الجرف فهوى في قعرها، ولا نرى أبلغ من هذا الكلام ولا أدل على حقيقة الباطل.وكنه أمره والفاعل فانهار أي: البنيان أو الشفا أو الجرف به، أي: المؤسس الباني، أو أنهار الشفا أو الجرف به أي: بالبنيان.ويستلزم انهيار الشفا والبنيان، ولا يستلزم انهيار أحدهما انهياره.والله لا يهدي القوم الظالمين، إشارة إلى تعديهم ووضع الشيء في غير موضعه حيث بنوا مسجد الضرار، إذ المساجد بيوت الله يجب أن يخلص فيها القصد والنية لوجه الله وعبادته، فبنوه ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين، وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله. اهـ.
|